أقوال العارفين في توحيد الشهود والعيان -3

قال الشيخ الشعراني: الذات المتعالية لم تتزيد عما كانت عليه بوجود شخصية الخلق، بل جميع الوجود مظاهر للذات، ففي حال عدم خلقه يكون التجلي في الاسم الباطن، وفي حال وجودهم يكون التجلي بالاسم الظاهر، وهو تعالى ظاهر لنفسه باطن في نفسه، إذ ليس في الوجود حقيقة إلا إياه، والمدرك من الكثرة مظاهره وشؤونه. واعلم يا أخي أن تجلي الحق تعالى دائماً إنما هو بالجلال الممزوج بالجمال، لأنه لو تجلى بالجلال الصرف لأفنى الوجود المقيد، وهذا التجلي الممزوج هو الذي ينزل فيه إلى سماء الدنيا في كل ليلة، ثم لا يكون ذلك إلا في صورة الكامل، ومن هذا قال الشبلي: "ما في الجبة إلا الله" إذ كان كامل عصره. ولا إشكال في ذلك، لأن المعنى: ما في الوجود إلا الله، كما لو قلت: "ما في المرآة إلا من تجلى فيها لصدقت، مع علمك أنه ما في المرآة شيء أصلاً مما تجلى فيها.
قال سيدي ابن عجيبة: فقوله يا قاصداً عين الخبر أي عين خبر التحقيق وقوله غطاه أينك أي مكان وجودك الوهمي إذ لو غبت عن وجودك لوقعت على عين التحقيق وقوله الخمر منك أي شربة خمرة المحبة منك وهذا كما قال، مني علي دارت كؤسي، وقوله والخبر أي والخبر عن عين التحقيق منك أيضاً وسر الربوبية عندك لأنك كنز مطلسم فإذا أردت أن تعرفه فأرجع لذاتك وأعتبر تجد الوجود كله واحداً وأنت ذلك الواحد قال الشاعر
هذا الوجود وإن تعدد ظاهراً ... وحياتكم ما فيه إلا أنتم
وقال أيضاً رضي الله عنه، لقد فشي سري بلا مقال، وقد ظهر عني في ذا المثال، نرى وجود غيري من المحال، وكلما دوني خيال في، متحد في كل شيء، أنا هو المحبوب وأنا الحبيب، والحب لي مني شيء عجيب، وحدي أنا فافهم سري غريب، فمن نظر ذاتي رآني شيء، وفي حلا ذات طواني طي، صفاتي لا تخفي لمن نظر، وذاتي معلومة تلك الصور أفن عن الإحساس تري عبر، في السر والمعنى خفيت كي، لأنه مني ستر على، وقد أتفقت على هذا المعني وهو سر الوحدة مقالات العارفين ومواجيد المحبين وأشعارهم كل على قدر ذوقه وشربه جزاهم الله عنا وعن المسلمين خيراً ولا يفهم هذه العبارات إلا أهل الأذواق والإشارات وحسب من لم يبلغ لها فهمه ولم يحط بها علمه أن يسلم ويكل فهمها إلى أربابها وليعتقد كمال التنزيه وبطلان التشبيه لأن هذه المعاني أذواق لا تنال إلا بصحبة أهل الأذواق.
وقال: المفعول به؛ هو الذي تحقق فناؤه، وكمل بقاؤه بالله، قد غاب عن وجوده؛ ووجود فعله؛ فهو مفعول به في كل ما يفعل ويذر. ليس له عن نفسه إخبار، ولا مع غير الله قرار، فعله بالله، وتركه بالله. فمثل هذا لم يبق عليه ميزان، ولا يتوجه عليه عتابٌ، إذا هو نائب عن الله في فعله؛ وهو عين من عيون الله، لأن وصفهم البشري مغطى عنهم، ومغمور بنور القدم، وإلى ذلك يشير ما ورد من قولهم: الشأن أن تكون عين الاسم، أي عين المسمى. وقولهم: أصابتك عينٌ من عيون الله. ومن ذلك قول سيدنا عمر رضي الله عنه للرجل الذي شجه علي كرم الله وجهه؛ والدم يسيل على شجته، أصابتك عين من عيون الله، بعد أن سأله عن سبب الضربة. فقال: رأيت مفاوضًا لامرأة، فساءني ما سمعت منه فضربته. ورد عن أبي بكر في قضية أخرى: أنا لا أقيد من وزغة الله. والوزغة كبراء الجيش، الذين يحشون بين صفوف الحرب لتقويمها وتمهيدها. وذلك إشارة منهم إلى رجال القبضة المتصرفين بالله، الأمناء على أسرار الله في خليفته ومملكته؛ وهم المحبوبون؛ الذين ورد فيهم، فإذا أحببته كنته. وقال المصنف: وهو الاسم المنصوب لجريان المقادير عليه؛ لم يبق له تدبيرٌ ولا اختيار؛ الذي يقع به الفعل من الله فهو آلة لفعله، وسيفٌ من سيوفه، ينتقم به من أعدائه إذا شاء؛ وهو على قسمين: ظاهر معروف، أظهره لنفع عباده، أو إقامة الحجة عليهم في الإنذار، ومضمرٌ خفي؛ وهو كنزٌ من كنوز الله، ضن به على خلقه، فهو مستورٌ تحت أستار البشرية، حتى يلقى الله.
وقال: وأعيان الحق الكمل من الأنبياء ، والرسل ، والملائكة ، وأكابر أوليائه ، فإنهم أعيان تجلياته ، ولذلك الإشارة بقوله عمر رضي الله عنه في شأن علي - كرم الله وجهه - حين ضرب شخصاً فشكاه : « أصابته عين من عيون الله » ، وذلك لما تمكنوا من سر الحقيقة ، صاروا عين العين . ومن ذلك قولهم : ليس الشأن أن تعرف الاسم ، إنما الشأن أن تكون عين الاسم ، أي : عين المسمى ، وهو سر التصرف بالهوية عند التمكين فيها ، وتمكن غيبة الشهود في الملك المعبود
وقال: : اعلم أنك إذا نظرت بعين البصيرة، أو بحق البصيرة، إلى الوجود بأسره، وجدته ذاتاً واحدة، ونسبته من الحق نسبة واحدة، أنوار ظاهرة، وأسرار باطنة، حكمته ظاهرة، وقدرته باطنة حسن ظاهر، ومعنى باطن، عبودية ظاهرية، وأسرار معاني الربوبية باطنة؛ إذا لا قيام للعبودية إلا بأسرار معاني الربوبية.
قال سيدي احمد الشناوي الخلوتي في رسالته المسماة بالصحف ما نصه: خلق الله آدم على صورته فالكون نسخة ذاته وسماته في منازلاته فخلق الله ادم على صورة الرحمن بيديه: الأحمدية والمحمدية، فأحمدية محمد جمعت جميع الحضرات إلالهية، ومحمديته هي الصورة الكونية الجزئية والكلية، إذ الأحمدية شاكلت الأحدية ولم تعر عن الواحدية والألوهية، والمحمدية صورة الأحمدية فزوت تحتها العقول القدسية والنفوس العرشية السبوحية وحضره الخيال الجامعة الشائعة الواسعة.
والإنسان الكامل جمع هذه الحضرات السابقة، فالذات أم الكتاب وهي القلم وشاكلها الإمام المبين وهو اللوح المحفوظ وهو العلم، فنسخه الذات العقل ونسخه العلم النفس ونسخة العقل العرش ونسخة النفس الكرسي فالإنسان بعقله ونفسه جامع حضرتي الرحمن والإمكان شعر :
        إن الوجود هو المثاني السبع بي            يتلى الكتاب به بجامع وقفتي
        أحدية والواحدية ضمنهـا               وألـوهة في أحمـدية وحدتي 
      ومحمدي عقولنا ونفوسنـا                  ثم الـخيال حواه كامـل برزتي
هذا والحق تعالى منزه عن الحلول والاتحاد والكيف والتشابه والوهم والثنوية وإنما هي تجليات في صورة معنوية ومحسوسات كما أشرنا لذلك سابقا في الزجاجة الشمسية بعد صفائها وعودها إلى أصلها تظهر فيها صوره الشمس بتمامها من غير حلول ولا اتحاد ولا تكييف والشمس شمس والزجاجة زجاجة فكذلك يظهر فى النفس ما يظهر فيها من النزلات والعبد عبد والرب رب (وقال بعضهم:
نزه فهذا واجب لله     لا الحاضرون دروا ولا اللاهي
ما فيهم من ذاته وصـــفاته      إلا شميم روائح ما لاهـــي
هم يحسنون فيحسبون بأنهم      إياه حاشاه عن الأشباه
ليس الإله بعبده كلا ولا    ناء بذات غير ذات تناهي 
الذات واحدة وأوصاف العلا    لله والسفلى لعبد واهي