أقوال العارفين في توحيد الشهود والعيان -5

قال سيدي الشيخ عبد الغني النابلسي: {فاخلع نعليك} أي صورتك الظاهرة وصورتك الباطنة، يعني جسمك وروحك فلا تنظر إليهما لأنهما نعلاك اللذان تمشي بهما في عالم الأغيار {إنك بالوادي المقدس} وهو الذات الوجود الحق المقدس عن كل شيء محسوس أو معقول {طوى} لانطواء العوالم كلها فيه واختفائها في وجوده ولانعدامها في حقيقتها. ثم قال لموسى عليه السلام: {وأنا اخترتك لنفسي} بأن تكون أنا وأكون أنا أنت {فاستمع لما يوحى} إليك مني، وهذا نظير حديث الإنسان الغافل لنفسه يحدثها وتتحدثه. ثم أكد تعالى هذا الظهور المذكور في أعيان العوالم كلها عند من اختص بالتحقيق بذلك فقال: {إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري} ثم إنه تعالى أخرجه من ذلك الطور وأرجه إلى الصبغة الموسوية فقال له: {فاعبدني وأقم الصلاة لذكري} أي لأجل هذا التذكر الذي حققته مني بأنك أنت أنا وأنا أنت وهذا قوله تعالى: {ولقد يسرنا القرآن للذكر} أي للتذكر {فهل من مدكر} أي مذتكر، أي يذكر الله تعالى في نفسه هذا الذكر بحيث يغيب عن صورته ويرجع إلى أمر ربه الذي حقيقة خلقته فيظهر ما لم يزل ويفنى ما الم يكن... وقال تعالى: {ولذكر الله أكبر} أي ذكره له بظهوره وبطونكم وقال الله تعالى لموسى عليه السلام: {وألقيت عليك محبة مني ولتصنع على عيني} أي ذاتي فأظهر بك وتغيب أنت وتظهر أنت وأغيب أنا، وما هما اثنان بل عين واحدة. وقال تعالى له: {واصطنعتك لنفسي} أي لأذهب عنك عينك الفانية وأرى بك عيني الباقية.
وقال أيضاً: [فإذا] اضمحل العبد بالكلية يظهر أمر الله تعالى حينئذ الذي به قيام كل شيء، وهو القرآن من جهة جمعه، وهو الفرقان من جهة فرقه بين الحقائق المختلفة، وهو الرحمن من حيث التجلي والظهور، وهو الله من حيث الذات الجامعة لجميع الصفات، وهو الحق سبحانه وتعالى من حيث بطلان جميع ما سواه.
وقال أيضاً: فإن العبد بعد الفناء المطلق الذي هو فناء الذات الظاهرة - بعد فناء جميع الأعيان وفناء الصفات الظاهرة له بعد ذلك – فإن جميع ما ظهر له من الحق تعالى بعد فنائه عن الأغيار لا بد له من فناء عنه أيضاً. فإذا فني عن جميع ما ذكرناه يخلع عليه حينئذ خلعة الوجود الحقاني الذي هو حق في حقيقة الأمر حتى يتصرف في ذلك بالوجود الحقاني بالأوصاف الإلهية التي هي للحق سبحانه وتعالى، فتصير قدرته قدرة الله، وإرادته إرادته، وسمعه سمعه، وبصره بصره، وهكذا إلى آخر الأوصاف. فيذهب العبد ويظهر الرب في بصيرة ذلك العبد الذي ذهب وظهر علم الحق تعالى ويتخلق ذلك العبد بالأخلاق الربانية ... وفي الحديث القدسي: "لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به"الحدبث، وفي رواية "فبي" أي بوجودي الحقيقي الذي غلب على وجوده المجازي فمحقه بالكلية، يسمع ذلك العبد المتقرب بالنوافل وبي أي لا بغيري كذلك يبصر فلا يسمع إلا بالله من الله، ولا يبصر إلا بالله لله، فلا مسموع عنده ولا مبصر إلا الله، ولا نفسه ولا ذاته. فالله يسمع الله، والله يبصر الله، وبي ينطق لا بلسانه وفمه، وبي يبطش لا بيده... فإن الذات الفانية التي للعبد والصفات الذاهبة المضمحلة في هذا المقام تتبدل بالذات التي للحق والصفات التي له الباقية بسبب أن الوجود الحقيقي القديم الذي لا يتكرر هو الباقي وحده كما ورد في الحديث: "كان الله ولا شيء معه وهو الآن على ما عليه كان" وحينئذ تخرج الذات والصفات الفانية من قبر الخفاء الذي اتصفت به في عالم الكون الفساد مع أنها هي الصفات والذات الباقية بعينها، ولكن عرفها الجاهلون بها على خلاف ما هي عليه، فرأوا الثبوت تغيراً، والإطلاق تقيداً، والقدم حدوثاً، فإذا ذهبت أنت عنهم من حيث أنت إليهم خرجت من قبر الخفاء والالتباس في محشر الظهور كما قال تعالى: {وأشرقت الأرض بنور ربها} فيصير العبد كله أرضاً مشرقة بنور الرب وهذه خلعة أسمائه تعالى التي يلبسها للعبد، وفيها يقول بعض الأكابر:
وحباني الرب المهيمن خلعةفالأرض أرضي والسماء سمائي
وقال أيضاً: لهذا العبد [العارف] مرتبتين: مرتبة الظهور ومرتبة البطون، والمميز بين المرتبتين هو جميع هذه العوالم، فإذا وجدت العوالم عند هذا العبد لم توجد هي، وإنما هو ظهور الله تعالى في أطوار صفاته وأسمائه، وإذا فنيت هذه العوالم عنده فإنما هو بطون الله تعالى، هو الأول والآخر والظاهر والباطن. ومتى رأى العبد شيئاً فإنما رأى الله تعالى في مرتبة ظهوره، لا أنه رأى ذلك الشيء. والظاهر هو الله لا ذلك الشيء، لأن الله قال: {كل شيء هالك إلا وجهه}، والهالك لا يرى لأنه عدم صرف.
وقال أيضاً: فليس الحادث هو عين القديم ولا القديم هو ذات الحادث، بل كل واحد منهما مباين للآخر في ذاته وصفاته وإن اجتمعا في الظهور بالوجود الواحد وثبوت العين به.
وقال أيضاً: اعلم أن المطلب الأهم عند مريد المعرفة الإلهية هو صرف الهمة إلى تحقيق الوجود والتحقق به في الشهود إلى أن يتجرد عن ملابس الصور الحسية والعقلية والخيالية تجردا أصلياً لا تجرداً عارضياً فيكون كما هو كائن ازلاً وأبداً، وهذا باب المعرفة الذي يدخل منه المريد الموفق إلى بيت العرفان ومقام الإحسان فلا يخرج أبداً إلى الأبد.
وقال أيضاً: حقيقة الكشف عند أهل المعرفة رفع حجاب الأغيار عن وجه الحق تعالى الطالع في جميع الأطوار.
قال الشيخ أبو بكر البناني: القبضة هي التعين الذاتي الذي لا يوصف بقبلية ولا بعدية، والمراد بهذا التعين ظهور الحقيقة المحمدية في نفسها ومراتبها، والتعين لايوصف باتصال ولا بانفصال واقتطاع بل ذلك كله عبارة عن تعين الغيب من غيبه في عينه، والكينونة المشار إليها في الحديث ليست على معناها الوضعي بل المراد بها خطاب التعين نفسه في نفسه، فالأمر بالنسبة للتعين الصادر عن أن لا تعين.
وقال أيضاً: لولا تعين الحقيقة الذاتية لم تظهر لها (للشؤون) عين في الدائرة العلمية الإلهية الوجودية، فبتعينها في عين وجودها تجلت من أصلية عمائها ورأت نفسها بنفسها في نفسها بعين أحديتها، وهذه المرتبة هي المسماة بالهوية الذاتية.
وقال أيضاً:  أولية نوره صلى الله عليه وسلم إشارة إلى أنه المظهر الأكمل والمجلى الأتم، وأنه عقل وجوده (المطلق الحق) في عين حقيقته لأن حقيقته هي النور، فانتشرت منه الأكوان كلها باعتبار حقيقته.
وقال أيضاً: حقيقته صلى الله عليه وسلم مرتبتين: مرتبة الإطلاق ومرتبة التعين، فإن تدلى من إطلاقه إلى تعينه علم المعلومات من حيث ارتسامها في مرتبة تعينه، وإن بقي في إطلاقه وغناه انطمست تعينات المعلومات في مراتبها لغناه عنها لأن الحقيقة الإطلاقية لا تقتضي علماً ولا جهلاً.
وقال أيضاً: عبودية التحقيق هي شهود الأحوال في عين ذات الباري، وأخذها من عين حقيقتها، وشهودها في عين ذاتها، فتلبسه بحال من الأحوال مع شهوده لها في عين الحقيقة الذاتية هو عين عبوديته.