قال الشيخ روزبهان البقلي في تقسيم الخواطر:
اعلم أن الله تعالى خلق الروح والعقل من ملكوت العرش والكرسي، وهو مسقط تجلي الجمال والجلال، فإذا أراد الله أن يريهما شيئًا من عالم الغيب وغيب الغيب من أحكام الربوبية، يكشف لهما من اللوح المحفوظ سطوراً من آيات الغيب ؛ فيظهر لهما خزائن الملكوت الأعلى كالمرآة، فيريهما أسرار القدرة على أمثلة أفعالية فيتبعان مراد الحق، ويتحركان بالقوة الإلهية فيظهر منها في القلب نور الغيب، ويصدر من ذلك للقلب إرادة امتثال مراد الله، فيرى ذلك الملك اليمين فيكتب لصاحبه حسنات، ويفرح بذلك الملك، ويتنور به جميع الأعضاء الظاهرة والباطنة. فصار طيب الرائحة في ظاهره وباطنه، وربما سمع الملك من باطن القلب رائحة طيب؛ فيعلم أن ذلك همة الروح بالحسنة؛ فكتب حسنة.
وإذا أراد الله بالعبد امتحانا وبلاء من شر فتح خزائن القهر على النفس الأمارة، وأوصل إليها منها ظلمة الشهوات المباشرة فيها؛ فتحركت بطلب مرادها من الشر والفساد واتباع هواها، وعزمه على ما يكون بخلاف العلم؛ فيرى ملك اليسار ظلمتها، ويجد منها رائحة منتنة، فإذا باشرت حظها من الشر والفساد يكتب سيئة بإذن ملك اليمين.
واعلم أن الله تعالى خلق النفس الأمارة من تربة الأرض، وهي أرضية كثيفة تميل إلى شهواتها التي بخلاف مراد الروح والعقل؛ لأنهما خلقا من عالم القدس ونور الملكوت، فلا يأتي منهما شيء يكون فيه حظ النفس والشيطان؛ لأنهما من خزائن ملكوت السماء، والنفس من خزائن ملكوت الأرض، والشيطان خلق من النار التي هي خزائن القهريات.
وافهم أن لأصحاب هذه الألسنة التي سميتها الخواطر أوصاف ونعوت وأخلاق. وأول الخطاب بكلامه والملهم بخطابه، والموحي بوحيه هو الله تعالى، وله ذات سرمدية وصفات أبدية، منزه عن المشابهة بالحدثان من جميع الوجوه، يتكلم مع الأنبياء والرسل والملائكة والصديقين من الأولياء، يتكلم معهم بنفسه بلا واسطة، وربما يحدث، وربما يوحي، وربما يلهم، إما بنفسه وإما بواسطة الملك، وربما يتكلم بالصفة الخاصة الأزلية، وربما يتكلم بفعله، وربما يوجه بخطابات في قلبه. ولكل واحد من هذه الخطابات له أثر وبركة ونماء وعلامة . وللمخاطب في سماعه وجد وحال وكشف ومعرفة وعلم خبر وسر وبيان وبرهان وحقائق لا يعلمها إلا من له قلب كقلب الأنبياء والرسل والملائكة، فالخطاب إذا كان صادرًا من صفة خاصة أزلية التي مصدرها الذات الأزلي فيكون في سمع سر السر ، ويكون في سمع السر، ويكون في سمع الروح، ويكون في سمع العقل، ويكون في سمع القلب.
فيقتضي من سماع سر السر: الكتمان، ويقتضي من سماع السر: العرفان، ويقتضي من سماع الروح: الإيقان، ويقتضي من سماع العقل: الإيمان، ويقتضي من سماع القلب الفهم والعلم.
وعند سماع كلامه العزيز يقع في أبصار أسار السامع الله مشاهدة المتكلم، وسناء صفائه، فيقع لكل واحد من المخاطبين بعد الفهم والعلم مكاشفة ومشاهدة، قدسية، جلالية، حتى صارت أسرارهم عاشقة والهة مستغرقة في بحار هوية الأزل، وأحدية الأبد.