قال سيدي أحمد بن عجيبة في شرحه على تائية شيخه سيدي البوزيدي:
لو خرجت النفس عن كل ما تعودت به من الحظوظ النفسانية والشهوات الجسمانية والعوائق الشيطانية، لنالت شفاء الروح مـن كـل علـة، فتصفى الروح من جميع الأمراض وترجع لأصلها كما وقع بها التجلي أولاً عارفة بمولاها عاشقة له فانية فيه مقدسة مطهرة، فتصلح حينئذ لدخول الحضرة المقدسة، إذ لا يدخل حضرة القدس إلا المقدسون.
وكما أن جنة المعارف لا يدخلها إلا المقدسون، كذلك جنة الزخارف لا يدخلها إلا المقدسون، فمَنْ تَقَدَّسَ هنا في دار الدنيا دخلها بلا هول ولا حساب، ومن لم يتقدس هنا ومات مريضاً روحه منجسة فلا بد أن يتقدس في المحشر لشدة الحر فينصب عرقه حتى تذهب علته ويزول نحاسه، فكل واحد يمكث في المحشر على قدر ما بقي فيه من المرض، فمنهم من يطول مكثه فيه، ومنهم من يقصر على قدر علته وتَنَحس روحه، ومن عظمت علته وتوغل داؤه فلا يكفي فيه هول المحشر وعرقه فلا بد أن يدخل النار حتى يذوب نُحاسه وتذهب علته، فيتطهر كما يتطهر الذهب أو الفضة بالنار، فحينئذ يصلح لدخول الجنة المطهرة الحسية، فإذا اتصل العبد بالطبيب الماهر وتطهَّر هنا من جميع العلل، كان من السبعين ألْفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب. وأما الكفار فأرواحهم برزت في التجلي الأول ظلمانية نارية ، فلا يناسبها إلا النار أبداً، والله تعالى أعلم.
ولوْ خَرَجَتْ أيضاً النفس عن عوائدها لَصَح جسمها من مرض عشق الأغيار والفروقات الكونية، فإنه لما ملكته العوائد صار أسيراً في يدها مملوكاً تحت قهرها، قلبه مريض بالشكوك والأوهام، وجسمه مريض بالتعب والحرص وضروب الآلام، إذ جل الأمراض إنّما هي من القلب، فإذا صح القلب صَحَّت الجوارح كلها، وفي الحديث: (إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله ، وإذا فسدت فسد الجسد كله ، ألا وهي القلب).
ولو خرجت النفس أيضاً عن عوائدها لبدتْ شَمسُ سرها في عالمها الحسي، فتشرق عليها شمس العرفان، ويغيب عنها شهود الأكوان ولظهرت المعاني من خلف الأواني ظهوراً كاملاً تاماً، فما حَجَبَ الناس عن شهود الأسرار إلا الوقوف مع العوائد والأغيار، كحب الدنيا وحب الجاه والرياسة والعز والغنى وغير ذلك مما تعودت به النفس، فإذا خرق عوائدها خرقت له عوائد الكون، فيرى فيه المكوّن أو قبله أو معه أو بعده. وفي الحِكَم: "كيف تُخرَق لك العوائد وأنت لم تخرق من نفسك العوائد".