السير في الله لا ينتهي -سيدي عبد الرؤوف المناوي

قال الشيخ عبد الرؤوف المناوي في شرحه على الحكم العطائية، عند قوله: ما أرادت همة سالك أن تقف عند كشف لها إلا ونادته هواتف الحقيقة: الذي تطلبه أمامك، ولا تبرجت ظواهر المكونات إلا ونادته حقائقها: إنما نحن فتنة فلا تكفر.

ما أرادت همه سالك، أي سائر إلى ربه، کشف له في أثناء سلوكه عن أنوار وبدت له أسرار، أن تقف عند ما كشف لها من المعارف والعلوم والأنوار والفهوم وأسرار الوجود في الحيوان والمعدن والنبات وسماع تسبيح الكائنات بجميع اللغات، ومنافع كل شيء ومضاره وخواصه وأسراره، فإن السالك إذا اتصف بالصدق والإخلاص، وحصل له الصفاء والخلاص ، تلوح لقلبه أنوار ويبدو له من عالم الملكوت أسرار.

فما أرادت همته الوقوف عند ذلك المكشوف ظنا أنه الغاية وأنه قد بلغ في سيره النهاية، إلا نادته هواتف الحقيقة وهي التي يسمعها السالك في بدايته، الكائنات القرينة له بلسان الحال تفكراً واعتباراً، تارة من أستاذه، وتارة من القلب، وتارة من الملائكة حبا فيه لما رأته عليه من علو الهمة: الذي تطلبه من معرفة الحق التي لا تتناهی حتى في الآخرة لأن المعرفة بحسب معروفها أمامك وأنت بعد في الطريق، ووقوفك مع غير المحبوب عنده من أعظم الذنوب.

فلا يزال السالك يعرف أنه في مقام المريد إلى أن يلقي الله، فإن النهاية منقولة غير معقولة، وتنتهي همم العارف وهو مع الحق على أول قدم، فلا يفي له عمره بما تعلقت به همته من المعرفة.

ثم قال: "ولا تبرجت ظواهر المكونات" بزينتها الخارقة للعادة من تسخير الأكوان وقلب الأعيان، فالتجلي بكل طلعة تبهج الناظر وتحير الباصر وتدهش الخاطر، فعند هذا الكشف تريد الهمة حط رحلها ظنا أن تلك هي النهاية التي ليس وراءها غاية، فما أراد ذلك إلا ونادته حقائقها أي بواطنها الإطلاقية: لا تقف معنا فتحجب عن ربنا فإنما نحن اختبار لك، أو فإنك إن فعلت كفرت نعمة مولاك فيما أولاك.

وبالجملة فالوقوف بالهمة على شيء دون الحق خسران، والاشتغال بالطلب مفتاح كل رباح وأمان، فيا الله العجب كيف يصير النور ظلاماً والكشف حجاباً. ولهذا من اشتغل بأنوار المقامات حجب عما وراءها من أسرار التعرفات وخفايا التجليات، ومن حجب عن الله بالنور فهو كمن حجب عنه بالظلمة، فإذا وقفت مع أنوار العطاء سدل عليك حجاب الغطاء.

والحاصل أن من وقف مع شيء حجب به، وليس القصد من نتائج المجاهدة ما يبدو من أنوار وجلوات، بل القيام بحق المعبود وأن لا تتوجه إلا إليه، فإن أتحف بنواله فاستعذ به من بلائه، واحذر أن يشغلك العطاء عن كشف الغطاء فتحجب بالآثار عن رب الدار، فإذا أشرفت على عجائب ملكه وملكوته، وأطلعك على خزائن جنته ورحموته، فقل لا أبغى سواك ولا أروم إلا إياك.