قال سيدي أبو بكر البناني في رسائله:
اعلموا وفقنا الله جميعاً لما يقربنا من حضرته ويصدنا عن محبة نفوسنا أن سعادة الإنسان إنما هي في الإقبال على الله بنعت رفض الهوى ومحبة المولى، وذلك عبارة عن ملازمة العبودية كما اقتضته حقائق الربوبية، فكلما اشتدت معانقة خدمة الشرائع حسنت ثمار أشجار الحقائق، وكثيراً ما كنا نسمع شيخنا ومولانا عبد الواحد الدباغ رضي الله عنه يقول: "إن أردت أن تعرف ما عند صاحبك من الحقائق فانظر إلى ما عنده من الشرائع".
ومن تأمل هذه الحكمة النورانية المؤيدة بسلطان الكتاب وبرهان السنة المحمدية وذاق طعمها الصافي من كل كدر وكان باطنه سالماً من التعصبات الخيالية، أدرك لا محالة أن القدم الكبير في التصوُّف هو المحافظة على الشرائع، لأنه كلما قوي القرب من الحضرة إلا وقد اشتد أدبها كما قال ترجمان الحضرة صلى الله عليه وسلم:"أنا أعلمكم بالله وأشدكم خوفاً منه"، فإنه لما جمع الله له علم الأولين والآخرين عظم خوفه من الله تعالى على قدر علمه بمعلومه، فالحقيقة النورانية أوجبت تعظيم الشريعة كما أن الشريعة أوجبت تعظيم الحقيقة.
ولما كان مطمح نظر العارفين ممتداً إلى عين الشريعة بداية ونهاية، وجب على كل صادق في طلب مولاه أن يقصر همه على الشريعة لأنها حاكمة في الحقيقة حتى إنه متى بطنت الشريعة وظهرت الحقيقة حكمت الشريعة بقتل من أبطنها كما وقع للحسين بن منصور وأضرابه من أهل الحق ، فالشريعة هي الأصل والحقيقة فرع عنها والمتمسك بالأصل مالك للفرع، ولا عكس.
وهذا النظر هو رأي الأكابر من أهل الله، وهذا المذهب هو اللائق بأهل التربية والسلوك ولذلك رجع إليه الشيخ مولانا العربي بعد أن كان يقول: الحقيقة أصل والشريعة فرع، فلما اتسع علمه وتحقق عنده ما يقال من أن الحكم للغالب وكان السلوك غالباً على الجذب رجع عن ذلك لكمال السياسة. فتحافظوا إخواني على الشريعة الغراء، نعني ما وظفته الربوبية على مظهر العبودية من كل وصف يليق بنا لا بها، إذ العبودية راجعة إلى وصف الذل كما أن الربوبية راجعة إلى وصف العز.
وحيثما عبرت عن الشريعة فالمراد بها شريعة السير والسلوك في طريق الخاصة ومرجعها إلى التخلي والتحلي، وأما الشريعة العامة فلا كلام لنا فيها إذ الفرائض مفروضة والسنن مسنونة، فكن للفرائض حافظاً وللمعاصي رافضاً، وأهلها وهم العلماء بأحكام الله قائمون بحفظها والذب عنها ومن ضيعها أو أنكرها فحكم الله نافذ على أيدي العلماء الحاملين لراية الشريعة.
فعليكم إخواني بذكر الله تعالى والمحافظة على الأوراد ومعانقة الصدق حالاً ومقالاً تظفروا بقرة العين، واستعينوا على أمركم بالصمت فإنه الحكمة المنجية من كل قاطع، وصمت الظاهر مفتاح نطق الباطن، وعليكم بالأدب مع الفقراء والتعظيم لكبيرهم والرحمة لصغيرهم وكلهم بنسبة الله كبراء.