قال سيدي محمود أبو الشامات قدس سره في شرحه على الحكم العطائية عند قول سيدي ابن عطاء الله السكندري قدس سره: إنما استوحش العباد والزهاد من كل شيء لغيبتهم عن الله في كل شيء فلو شهدوه في كل شيء لما استوحشوا من شيء
أقول: إن العباد هم الذين يعبدون الله تعالى من وراء حجب الأشياء كلها وقائمون بالعبادة بنفسها، فقد تعين عندهم وجود الأشياء واستتر الله تعالى عنهم، فتراهم ينفرون من ظهوره تعالى بصورة كل شيء إلى بطونه عن صورة كل شيء، وكذلك الزهاد الذي يزهدون في الأشياء فإنهم لولا ملاحظتهم لها وإدعاؤهم ثبوتها بوجود غير الوجود الحقيقي ما زهدوا فيها، فتراهم ينفرون منها، كل ذلك لاحتجابهم عن الله تعالى بها، فلو شهدوه ظاهراً بصورة كل شيء لما نفروا من شيء، بل كانوا ينتظرونها ممتثلين أمر الله تعالى، كما شرع يقول:
أمرك في هذا الدار بالنظر في مكوناته وسيكشف لك في تلك الدار عن كمال ذاته
أقول: إن العباد والزهاد المستنفرين من الأشياء، لم يمتثلوا أمر الله سبحانه وتعالى في الحقيقة مع أنهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، وذلك لأن الله تعالى أمرنا في هذه الدار الظاهرة بالنظر في مكوناته التي هي مظاهر أسمائه وصفاته، ووعدنا أيضاً بأنه سيكشف لنا عن كمال ذاته في الدار الآخرة التي هي باطن هذه الدار الظاهرة. وملخص ذلك أن لله حضرتين: حضرة شهادة وظهور، وحضرة غيب وبطون.
فأما حضرة الظهور، فهي ظهوره تعالى في صورة كل شيء من غير أن تتحول ذاته العلية عن إطلاقها الذاتي وتحل في شيء من ذلك أصلاً، فيجب على السالك في هذه الحضرة أن لا يستوحش في شيء أصلاً، بل يتأمل ويفتكر ويعتبر ويشاهد جميع آيات ربه تعالى الظاهرة مع ملازمة العمل المشروع.
وأما حضرة البطون فهي بطونه تعالى بكمال ذاته عن كل شيء من غير أن يرتفع تجليه عن الأشياء الظاهرة، فيجب على السالك في هذه الحضرة دوام المراقبة لله والحضور معه وبذلك تتم معرفته وتستوي الحضرتان حضرة الظهور وحضرة البطون عنده فيراه ظاهراً متجلياً بصورة كل شيء، وتقر عينه بشهود جماله ويؤمن به باطناً منزهاً عن مشابهة كل شيء، ويطمأن قلبه بتحقيق كمال ذاته تعالى العلية.