ضنائن الحق تعالى - الشيخ أيوب الخلوتي

قال سيدي أيوب الخلوتي في الذخائر:

الإخلاص الذي هو عند المحقق العثور على سر القدر الممنوع منه أكثر الأولياء إلا طائفة الضنائن، وبمثل ذلك فارقوا جنسهم، فإن لله عباداً ليسوا أنبياء ولا شهداء يغبطهم النبيون والشهداء، وهم على كراسي النور في القيمة ويوم الكثيب، ولهم حالة مع الحق لا يعرفها سواهم، يتجردون فيها عن الطبيعة وينسلخون عن البشرية ويلحقون في حال الفناء الكلي الذي قام لهم بالملائكة المهيمين الذين لا يعرفون في الوجود غیر موجدهم تعالی، عبرت عنهم العبارات المحمدية بالضنائن لقلة عددهم وخفائهم بين أهل عصرهم وتسربلهم برداء العبودية المحضة، فهم أعز من الكبريت الأحمر.

ولهم في مداركهم الدقيقة علامات اطلع عليها أرباب الأذواق الذين فتح لهم في أسرارهم الفتح المطلق، فمنها:

العجز في القدرة والقدرة في العجز، وهي علامة عجيبة المطلع، فإن العبد إذا كان مطلوبا لربه القادر، وقدرة الحق تعالی مطلقة لا يقيدها شيء، فهو تعالى يأتي به إليه من الطرق القريبة، فهو في حال سفره المطوي إليه تعالى أن يشاهد قدرة سيده على ذلك من غير ملاحظة ذاته ولوازمها كان متحققا بالعجز التام عند رؤية القدرة الكاملة، فإذا لحظ نفسه تراءى في مرآتها الكاملة ربه فاتصل أزله بأبده، وطاح وجوده في شهوده.

ومن ذلك احتقار المغرورين لهم، وذلك لرفتعهم عند الحق، إذ إن الجهل من الصفات الذاتية للعبد لا يمكن رده عنه، وإن التجلي لا يتكرر وليس في عالم الظهور إلا الشؤون الذاتية التي هو تعالی ظهر بها لخلقه رحمة لهم، ولولا ذلك ما ظهرت أعيانهم ولا بدا منهم بوادر أنوار ولا شواهد أسرا ، فالمخلوق کالآلة التي يفعل بها الصانع، هل يحسن بذي اللب ينسب إليها أنها تعرف ما صنع بها فضلا عن معرفة صانعها؟ هذا لا يقال، ولولا الروح الذي نفخت في الآدمي لما تميز بينها بالعرفان، وهو أكبر منة عليه، لا يقدر قدرها من حيث رؤيته نفسه في الإطلاق في حال سلامة صورته ومعناه، ولذلك ابتلاه ليكون البلاء أفعاله، ولا يزال بين خفض ورفع حتى يأخذ بناصيته إلى شهود صانعه، فيرتقي عن دنس الوجود الوهمي إلى قدس الوجود الذاتي، فيعرف بذلك ما أريد له وما خلق له.

فإذا كان جهل المحجوبين عنه تعالى في هذه الرتبة، وظهور الدعوى على ذواتهم مع قيامهم بقيوميته تعالى، وظهور آثاره عنهم مع علم منهم بذلك، فما بالك تقابلهم في نفسهم بعض مع بعض ولذلك يقول: {وجعلنا بعضكم لبعض فتنة}، وذلك أنه تعالى مطلق في الظهورات، يظهر بنفسه لنفسه وبنفسه لخلقه وبخلقه لنفسه.

فهؤلاء الضنائن الذين هم الأعيان الإلهية الظاهرين بالشؤون والأوصاف والأسماء على علم کامل وشهود تام، والحق جل وعلا يقيم لهم دول الأزمان، وفي نفس الأمر هم المتصرفون المطلقون في الله، لا تقيد لهم بشيء دونه، وأنفسهم ليست في حصر العصور والأزمنة، ولا تحت أحكام الدورة الفلكية ولا تتأثر بالعناصر، وإنما هي في غيب الغيب لا قيام لها بغير الهوية الذاتية المطلقة.