قال الشيخ نعمة الله النخجواني النقشبندي:
إخواني، "إنما الأعمال بالنيات"، والنية مَا هِيَ إِلَّا فِعْلُ الْقَلْبِ، وَالْقَلْبُ إِنَّمَا هُوَ منزل الرُّوحِ، وَالرُّوحُ مَا هُوَ إِلَّا نَفْخَةٌ نَاشِئَةٌ مِنْ تَنَفُّسِ الرَّحْمَنِ وبضعة منتشئة مِنْ رُوحِهِ الْأَقْدَسِ، إِنَّهَا تَنْزِلُ فِي الْقَلْبِ مِنْ نفخ الْحَقِّ، وَلَا شَكَّ أَنَّ التَّنَفُّسَ لَهُ ارْتِبَاطٌ بِالْحَقِّ النَّافِخِ وَلَهُ نَوْعُ تَعَلُّقٍ أَيْضاً بِالْجِسْمِ الْمَنْفُوخِ فِيهِ، فَمَا دَامَ لَمْ يُتَنَفَّسْ كَانَ مُتَّصِفاً بِالْوُجُوبِ وَبَعْدَ مَا تُنُفِخَ صَارَ موصوفاً باِلْإِمْكَانِ، وَمِنْ عِنَايَةِ اللهِ تَعَالَى إياه أَنْ يُذَكِّرَهُ الْمَوْطِنَ الْأَصْلِيَّ الْوُجُودِيَّ وَيُرقِيهِ مِنْ حَضِيضِ الْإِمْكَانِ إِلَى أوْجِ الْوُجُوبِ بِتَوْفِيقٍ مِنْ لَدُنْهُ وجذب من جانبه.
فَظَهَرَ أَنَّ مبنى تَقَرُّبِ الْعَبْدِ إِلَى اللهِ تعالى وتحننه نحوه، ومناط عُمُومِ التَّكَالِيفِ، الْمَأْمُورَةِ لَهُ، الْمَقبولة مِنْهُ، بِنِيَّةِ التَّقَرُّبِ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ مَا هُوَ إِلَّا الرُّوحُ الْمَنْفُوخُ الْمُضَافُ إِلَى الْحَقِّ، الْمُرْتَبِطُ بهُ ارْتِبَاطَ النفخ بِالنَّافِخِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ تَقَرُّبِ الْعَبْدِ إِلَى اللهِ إِنَّمَا هُوَ التخلق بِأَخْلَاقِ اللهِ وَالِاتِّصَافُ بِأَوْصَافِهِ، كَمَا قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تَخَلَّقُوا بِأَخْلَاقِ اللهِ" لَيْسَ التَّقَرُّبُ الْمَكَانِيُّ الْمُسْتَلْزِمُ لِلْمَسَافَةِ وَلِلسَّاحَةِ وَلَا يَتَعَقَّلُ هَذَا التَّقَرُّبُ وَالتَّخلق إِلَّا بِالرُّوحِ الْمَنْفُوخِ المودع فِي الْعَبْدِ الْمُضَافِ إِلَى الْحَقِّ وَإِلَّا مَا للتراب ورب الْأَرْبَابَ حَتَّى يَتَخلق بِأَخْلَاقِهِ وَيَتَّصِفَ بِأَوْصَافِهِ؟
فَنَتَّجَ أَنَّ حِكْمَةَ وُرُودِ عُمُومِ التَّكَالِيفِ الْوَارِدَةِ الْمُرَادَةِ فِي الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ وَالصُّحُفِ السَّمَاوِيَّةِ عَلَى الْإِنْسَانِ مَا هِيَ إِلَّا لتصفية رُوحِهِ الْمَنْفُوخِ فِيهِ مِنْ عَالَمِ اللاهوت عَنْ مَكْدُرَاتِ عَالَمِ الناسوت، وفطامه وفصاله عن حضانة أمهات الطَّبَائِعِ وَالْأَرْكَانِ الْإِمْكَانِيَّةِ، وَإِيصَالُهُ إِلَى كَشْفِ وَاجِبِ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ لِيَذْكُرَ الْمَوْطِنَ الْأَصْلِيَّ وَيَنْجَذِبَ إِلَيْهِ ويتحنن نحوه، وذلك مَسْبُوقٌ بِهِدَايَةٍ إِلَهِيَّةٍ وَوَهب إِلَهَامِيٍّ وَتَوْفِيقٍ رَبَّانِيٍّ.
وَمَنْ تَأَمَّلَ فِي كَلِمَة: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} ظَهَرَ لَهُ الْمَعْنَى الْمَذْكُورُ عَلَى الْوَجْهِ المراد فافهم.
وأما عَجَائِبُ قَلْبِ الْإِنْسَانِ وَغَرَائِبُ أَطْوَارِهِ فهو ينبوع الْحِكْمَةَ الْإِلَهِيَّةَ الْمَنْطَوِيَةَ مِنْ بحر الْعِلْمِ المحيط الْإِلَهِيِّ الْمُتَنَشِّئَ مِنْ لَوْحِ تجليه المحفوظ عَنْ طُرَيَانِ الِانْتِهَاءِ وَالِانْقِضَاءِ. وَبِالْجُمْلَةِ قَلْبُ إِنْسَانِ الْكَامِلِ أَفْسَحُ فَضَاءً وَأَوْسَعُ وِعَاءً، أَنْشَأَهُ الْحَقُّ الواسع الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ حَسَبَ إِرَادَتِهِ الْبَالِغَةِ وَقُدْرَتِهِ الْغَالِبَةِ لِما ورد فِي كَلِمَاتِهِ الْقُدْسِيَّةِ: "مَا وَسِعَنِي أَرْضِي وَلَا سَمَائِي بَلْ وَسِعَنِي قَلْبُ عَبْدِيَ الْمُؤْمِنِ"
فتَأَمَّلْ أيها الْمُؤْمِنَ الْمُوقِنَ فِي سعة قَلْبِك وَفسْحَةِ صَدْرِك وَاجْهَدْ فِي تنقيته وَتَصْفِيَتِهِ وَتَصْقِيلِ مَا حَدَثَ فِيهِ مِنَ الصَّدَأِ وَإِماطَةِ مَا عرضَ عَلَيْهِ مِنَ الْهَوَى. وَاعْلَمْ يَا أَخِي فِي اللهِ أَنَّ وَسِيلَةَ وَصْلَتِكَ إِلَى رَبِّكَ وَرَابِطَةَ قُرْبَتِكَ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ مَا هِيَ إِلَّا قَلْبُكَ الْمُفَاضُ لَكَ مِنْ رَبِّكَ الَّذِي رباك عَلَى فِطْرَةِ الْمَعْرِفَةِ وَفطرك عَلَى فِطْنَةِ التَّوْحِيدِ وَالْيَقِينِ.
وَبِالْجُمْلَةِ قَلْبُ الْإِنْسَانِ الْكَامِلِ هُوَ الْحد الْفَاصِلُ بَيْنَ عَالَمِي الْلَاهُوتِ وَالنَّاسُوتِ وَالْبَرْزَخُ الْجَامِعُ للْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، والنقطة الْمُشْتَرِكَةُ بَيْنَ قوسي الْوُجُوبِ وَالْإِمْكَانِ فافهم.