قال سيدي أبو بكر البناني قدس سره:
اعلم أيها الفقير أن الحق جل جلاله من كمال قدرته الباهرة أن جعل معرفة الشيء مقرونة ومربوطة بمعرفة ضده ، فلا يعرف الشيء إلا بمعرفة ضده حسبما تقتضيه الحكمة. فالربوبية لا تُعرف إلا بالعبودية والمعنى لا تُعرف إلا بالحس، وقس عليه ما أشبهه.
فمن أراد معرفة الربوبية لا بد له من معرفة العبودية، نعني أنّ من أراد أن يتحلى بأسرارها لا بد له أن يتحلّى بخدمة العبودية، فمن أراد عزّها فلا بد له من ذلّه، ومن أراد غناها فلا بد له من فقره، ومن أراد موالاتها فلا بد له من عداوة نفسه، إلى غير ذلك، لأنّه لمّا كانت معرفة الشيء موقوفة على ضدّه كان الأهم عند العقلاء الاعتناء بالضد الذي هو الشريعة والوسيلة، وما أدى إلى شهود الحق فهو حق لأنّ الوسائل قد تعطي حكم المقاصد. فإن أردت أيها الفقير الدخول في زمرة الأولياء فحقق فقرك وفاقتك من كل شيء ، واجلس على بساط الذل والاضطرار جلسة رجل عزاه الله بقوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ}.
فالعاقل يا فقير هو الذي تعزّى بعزاء الله، فلم يحتج إلى عزاء غيره. وكل من لم يجلس في مقام التعزية وأراد أن يعرف أسرار الربوبية فاعلم أنه مغرور وخال من النور، ولا شك أن نقطة من ماء الحسّ تطفي بحوراً من المعاني والضدان لا يجتمعان، والحق في غاية الجلاء لمن كُحِل طرفه بنور التوفيق .
واعلم أنه لا يتكامل أمرك فيما ذكر إلا بعد أن تتطهر بماء الغيبة عن العوالم العلوية والسفلية بحيث لا تبالي بمن والاك ولا تعتمد على غير مولاك ، لأنه ما ثم إلا ربوبية تولّت عبودية، فلا إقبال في الحقيقة إلا على الله، ولا محبوب في الحقيقة إلا الله، لكن لا بد للفقير من تعب الكون حتى يخرج إلى شهود فضاء المكوّن، وإلا فالحجاب به محيط كما جرت سنة الله تعالى.