شرح الحكمة العطائية الثالثة من كتاب اللطائف الإلهية

الحكمة الثالثة:
«ما نفع القلب شيء مثل عزلة يدخل بها ميدان فكرة» .
شرح الحكمة 
: هذه الحكمة تشير إلى الحديث الشريف:
«ألا و إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله و إذا فسدت فسد الجسد كله ألا و هي القلب» .
إنّ هذا الحديث يبين لنا أن قلب الإنسان هو الأساس، و إذا كان الأساس سليما يكون البناء الذي هو الجسد سليما، و هذه الحكمة تبين لنا أن العزلة تنفع في صلاح القلب و تساعده على الاعتبار و التفكر في الكون و المكوّن، و ذكر العلماء عشرة فوائد للعزلة:
الأولى: السلامة من آفات اللسان، فإن من كان وحده لا يجد معه من يكلمه و قد جاء في الخبر: «رحم اللّه عبدا سكت فسلم أو تكلم فغنم» و ورد أيضا: «أكثر خطايا ابن آدم في لسانه، و أكثر الناس ذنوبا يوم القيامة أكثرهم خوضا فيما لا يعنيه» .
الفائدة الثانية: حفظ البصر و السلامة من آفات النظر، قال محمد بن سيرين: إياك و فضول النظر فإنها تؤدي إلى فضول الشهوة» .
الفائدة الثالثة: حفظ القلب وصونه عن الرياء و المداهنة و غيرهما، قال بعض الحكماء: من خالط الناس داراهم، و من داراهم راءاهم، و من راءاهم وقع في ما وقعوا فيه فهلك كما هلكوا.
الفائدة الرابعة: حصول الزهد في الدنيا و القناعة منها، و بذلك يحقق حب اللّه تعالى و حب الناس له، مصداقا لقول النبي صلى اللّه عليه و آله و سلم: «ازهد في الدنيا يحبك اللّه و ازهد في ما في أيدي الناس يحبك الناس» .
الفائدة الخامسة: السلامة من صحبة الأشرار و مخالطة الأرذال، و في مخالطتهم فساد عظيم و خطر جسيم، لأن الصاحب ساحب، و كما ثبت في الحديث: «المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل» .
الفائدة السادسة: التفرغ للعبادة و الذكر و العزم على التقوى و البر، فالعبد إذا كان وحده تفرّغ لعبادة ربه و انجمع عليها بجوارحه و قلبه و عقله لعدم وجود من يشغله عن ذلك.
الفائدة السابعة: وجدان حلاوة الطاعات و لذيذ المناجاة لفراغ سره عن الأغيار التي تشغله عن مولاه.
الفائدة الثامنة: راحة القلب و البدن، فإن في مخلاطة الناس ما يوجب تعب القلب. ۵٠
الفائدة التاسعة: صيانة نفسه و دينه من التعرض للشرور و الخصومات التي توجبها الخلطة، فإن النفس تسارع في الخوض في مثل ذلك إذا اجتمعت بأرباب الدنيا و زاحمتهم فيها، و العزلة تحميه من ذلك.
الفائدة العاشرة: التمكن من عبادة التفكر و الاعتبار، نقل عن سيدنا عيسى عليه السلام قوله: «طوبى لمن كان كلامه ذكرا، و صمته تفكرا و نظره عبرة» و نقل عن الحسن قوله: «الفكرة تريك حسنك من سيئك و يطلع بها على عظمة اللّه تعالى و جلاله إذا تفكر في آياته و مصنوعاته» .
قال الشيخ ابن عباد النفري: «هذه ثمرات عزلة أهل البداية، و أما أهل النهاية فعزلتهم مصحوبة معهم و لو كانوا وسط الخلق، لأنهم حاضرون مع اللّه تعالى على الدوام استوت عندهم الخلوة و الخلطة.
و لما للخلوة من أهمية في حياة المريد السالك إلى اللّه تعالى انطلاقا من تحققه في مقامات الدين الكامل الإسلام و الإيمان و الإحسان و إتماما للفائدة نذكر ملخصا عن كل ما يتعلق بالخلوة من فوائد و أسرار عند الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي كما ذكرها في كتابه (الفتوحات المكية) حيث يقول: «اعلم وفقنا اللّه و إياكم أن الخلوة أصلها في الشرع: «من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، و من ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه» فهذا حديث إلهيّ صحيح يتضمن الخلوة و الجلوة، و أصل الخلوة من الخلاء الذي وجد فيه العالم: [الرجز]
فمن خلا و لم يجد فما خلا فهي طريق حكمها حكم البلا 
و قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: «كان اللّه و لا شيء معه» .
و سئل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: أين كان ربنا قبل أن يخلق خلقه؟ قال: «كان في عماء ما فوقه هواء و ما تحته هواء» ثم خلق الخلق و قضى القضية و فرغ من أشياء و هو كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [الرحمن:٢٩] و سيفرغ من أشياء ثم يعمر المنازل بأهلها إلى الأبد.
الخلوة أعلى المقامات و هو المنزل الذي يعمره الإنسان و يملؤه بذاته فلا يسعه معه فيه غيره، فتلك الخلوة و نسبتها إليه، و نسبته إليها نسبة الحق إلى قلب العبد الذي وسعه و لا يدخله، و فيه غير بوجه من الوجوه الكونية فيكون خاليا من الأكوان كلها فيظهر فيه بذاته، و نسبة القلب إلى الحق أن يكون على صورته فلا يسع فيه سواه، و أصل الخلوة في العالم الخلاء الذي ملأه العالم، فأوّل شيء ملأه الهباء و هو جوهر مظلم ملأ الخلاء بذاته ثم تجلّى له الحق باسمه النور فانصبغ به ذلك الجوهر و زال عنه حكم الظلمة و هو العدم فاتصف بالوجود فظهر لنفسه بذلك النور المنصبغ به و كان ۵١
ظهوره به على صورة الإنسان، و بهذا يسميه أهل اللّه الإنسان الكبير، و تسمى مختصره الإنسان الصغير لأنه موجود أودع اللّه فيه حقائق العالم الكبير كلها، فخرج على صورة العالم مع صغر جرمه، و العالم على صورة الحق، فالإنسان على صورة الحق و هو قوله: «إنّ اللّه خلق آدم على صورته» . . .
فالإنسان عالم صغير و العالم إنسان كبير، ثم انفتحت في العالم صور الأشكال من الأفلاك و العناصر و المولدات فكان الإنسان آخر مولد في العالم أوجده اللّه جامعا لحقائق العالم كله و جعله خليفة فيه فأعطاه قوّة كل صورة موجودة في العالم، فذلك الجوهر الهبائيّ المنصبغ بالنور و هو البسيط، و ظهور صور العالم فيه هو الوسيط، و الإنسان الكامل هو الوجيز، قال تعالى: سَنُرِيهِمْ آيٰاتِنٰا فِي اَلْآفٰاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ [فصلت:۵٣]ليعلموا أن الإنسان عالم وجيز من العالم يحوي على الآيات التي في العالم فأوّل ما يكشف لصاحب الخلوة آيات العالم قبل آيات نفسه لأن العالم قبله كما قال تعالى: سَنُرِيهِمْ آيٰاتِنٰا فِي اَلْآفٰاقِ [فصلت:53]ثم بعد هذا يريه الآيات التي أبصرها في العالم في نفسه. . .
فأبانت له رؤية تلك الآيات التي في الآفاق و في نفسه أنه الحق لا غيره و تبين له ذلك، فالآيات هي الدلالات له على أنه الحق الظاهر في مظاهر أعيان العالم، فلا يطلب على أمر آخر صاحب هذه الخلوة، فإنه ما ثم جملة واحدة، و لهذا تمّم تعالى في التعريف فقال: أَ وَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلىٰ كُلِّ شَيْءٍ من أعيان العالم شَهِيدٌ [فصلت:۵٣]على التجلي فيه و الظهور، و ليس في قوّة العالم أن يدفع عن نفسه هذا الظاهر فيه و لا أن لا يكون مظهرا و هو المعبر عنه بالإمكان، فلو لم يكن حقيقة العالم الإمكان لما قبل النور و هو ظهور الحق فيه الذي تبين له بالآيات، ثم تمّم و قال: إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ من العالم مُحِيطٌ [فصلت: 54]و الإحطاة بالشيء تستر ذلك الشيء فيكون الظاهر المحيط لا ذلك الشيء، فإن الإحاطة به تمنع من ظهوره فصار ذلك الشيء و هو العالم في المحيط كالروح للجسم، و المحيط كالجسم للروح الواحد شهادة و هو المحيط الظاهر و الآخر غيب و هو المستور بهذه الإحاطة و هو عين العالم. . .
ثم إنه لما انصبغ بالنور كان في خلوة بربه، و بقي في تلك الخلوة إلى الأبد لا يتقيد بالزمان لا بأربعين يوما و لا بغير ذلك، فالعارف إذا عرف ما ذكرناه عرف أنه في خلوة بربه لا بنفسه و مع ربه لا مع نفسه. . . ۵٢
فالخلوة من المقامات المستصحبة دنيا و آخرة إلى الأبد من حصلت له لا تزول فإنه لا أثر بعد عين. . .
قال بعضهم لصاحب خلوة: اذكرني عند ربك في خلوتك، فقال له: إذا ذكرتك فلست معه في خلوة. و من هنا تعرف قوله تعالى: «أنا جليس من ذكرني» فإنه لا يذكره حتى يحضر المذكور في نفسه إن كان المذكور ذا صورة في اعتقاده أحضره في خياله، و إن كان من غير عالم الصور أو لا صورة له أحضرته القوّة الذاكرة، فإن القوّة الذاكرة من الإنسان تضبط المعاني، و القوّة المتخيلة تضبط المثل التي أعطتها الحواس أو ما تركبه القوّة المصوّرة من الأشكال الغريبة التي استفادت جزئياتها من الحس لا بدّ من ذلك ليس لها تصرّف إلاّ به، فمن شرط الخلوة في هذا الطريق الذكر النفسي لا الذكر اللفظيّ، فأوّل خلوته الذكر الخياليّ و هو تصوّر لفظة الذكر من كونه مركبا من حروف رقمية و لفظية يمسكها الخيال سمعا أو رؤية فيذكر بها من غير أن يرتقي إلى الذكر المعنويّ الذي لا صورة له و هو ذكر القلب، و من الذكر القلبيّ ينقدح له المطلوب و الزيادة من العلوم، و بذلك العلم الذي انقدح له يعرف ما المراد بصور المثل إذا أقيمت له، و أنشأها الحسّ في خياله في نوم و يقظة و غيبة و فناء، فيعلم ما رأى و هو علم التعبير للرؤيا» .
و يتابع الشيخ الأكبر رحمه اللّه تعالى حديثه عن الخلوة و أسرارها إلى أن يذكر لنا بعض أصناف السالكين الذين يدخلون الخلوة مبيّنا الأسباب التي من أجلها دخلوا الخلوة فيقول:
«و منهم من يأخذ الخلوة لصفاء الفكر ليكون صحيح النظر فيما يطلبه من العلم، و هذا لا يكون إلاّ للذين يأخذون العلم من أفكارهم، فهم يتخذون الخلوات لتصحيح ما يطلبونه إذا ظهر لهم بالموازين المنطقية و هو ميزان لطيف أدنى هواء يحرّكه فيخرجه عن الاستقامة فيتخذون الخلوات و يسدّون مجاري الأهواء لئلا تؤثر في الميزان حركة تفسد عليهم صحة المطلوب، و مثل هذه الخلوة لا يدخلها أهل اللّه و إنما لهم الخلوة بالذكر ليس للفكر عليهم سلطان و لا له فيهم أثر، و أيّ صاحب خلوة استنكحه الفكر في خلوته فليخرج و يعلم أنه لا يراد لها و أنه ليس من أهل العلم الإلهيّ الصحيح، إذ لو أراده اللّه لعلم الفيض الإلهي لحال بينه و بين الفكر.
و منهم من يأخذ الخلوة لما غلب عليه من وحشة الأنس بالخلق فيجد انقباضا في نفسه برؤية الخلق حتى أهل بيته، حتى أنه ليجد وحشة الحركة فيطلب السكون ۵٣
فيؤدّيه ذلك إلى اتخاذ الخلوة. و منهم من يتخذ الخلوة لاستحلاء ما يجد فيها من الالتذاذ، و هذه كلها أمور معلومة لا تعطي مقاما و لا رتبة، و صاحب الخلوة لا ينتظر واردا و لا صورة و شهودا، و إنما يطلب علما بربه فوقتا يعطيه ذلك في غير مادّة، و وقتا يعطيه ذلك في مادة، و يعطيه العلم بمدلول تلك المادة.
هذا و من أراد التوسع في معرفة الخلوة و فوائدها و أسرارها و أهميتها في حياة الفرد المسلم السالك إلى اللّه تعالى فليرجع إلى الجزء الثالث و التسعين، من الباب الثامن و السبعين في معرفة الخلوة. و ليرجع إلى كتاب «الإسفار عن رسالة الأنوار فيما يتجلى لأهل الذكر في الخلوة من الأنوار» المتن للشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي و الشرح للشيخ عبد الكريم الجيلي رحمهما اللّه تعالى.