شرح الحكمة العطائية الخامسة عشرة من كتاب اللطائف الإلهية

الحكمة الخامسة عشرة:
«من رأيته مجيبا عن كلّ ما سئل، و معبّرا عن كلّ ما شهد، و ذاكرا كلّ ما علم، فاستدلّ بذلك على وجود جهله» .
شرح الحكمة:
هذه الحكمة تتضمن ثلاثة أمور: الإجابة عن كل سؤال، و التعبير عن كل مشهود، و التكلم بكل ما يعلم. و هي تدل على جهل من تصدر عنه. فأي إنسان صادفته يجيب عن كل ما يسأل عنه، و يعبر عن كل ما يراه من أمور، و يتكلم بكل ما يعلمه من علوم، فاستدل بهذه الأمور الثلاثة على جهل هذا الرجل المتصف بها.
و سنتكلم على كل صفة من هذه الصفات الثلاث كلّ على حدة لتوضيح الحكمة.
أما الأولى: و هي الإجابة عن كل سؤال، فهذا يقتضي أنه أحاط بجميع العلوم و المعارف، و هذا محال بدليل قوله تعالى: وَ مٰا أُوتِيتُمْ مِنَ اَلْعِلْمِ إِلاّٰ قَلِيلاً [الإسراء:
٨۵]. هذا من وجه، و من وجه آخر على المسؤول عن مسألة أن يراعي حال السائل في سؤاله، قيل للإمام الجنيد رحمه اللّه تعالى: يسألك الرجلان عن المسألة الواحدة فتجيب هذا بخلاف ما تجيب هذا؟ فقال الجنيد: إن الجواب يكون على قدر السائل لا على قدر المسائل.
و روي أن أحد العلماء سئل عن مسألة فلم يجب عنها فقال له السائل: أما علمت أن من كتم علما نافعا ألجمه اللّه تعالى يوم القيامة بلجام من نار؟ فقال له العالم: ضع اللجام و اذهب، فإن جاء من يستحقه و كتمته عنه فليلجمني. و قد سئل الإمام مالك رحمه اللّه تعالى عن اثنتين و ثلاثين مسألة، فأجاب عن ثلاث و قال في الباقي: لا أدري.
أما الفقرة الثانية: و هي التعبير عن كل ما يراه من أمور، سواء كانت حسية تتعلق بالآخرين أو كانت معنوية تتعلق به هو، من كرامات و مكاشفات و غير ذلك من أحوال و مقامات روحانية ذوقية، فإن تعبيره عنها دليل على جهله، لأنه بفعله هذا يكون مفشيا للأسرار، و قديما قالوا: قلوب الأحرار قبور الأسرار، و هتك الأسرار من شأن الأشرار. و قال الشاعر:
لا يكتم السر إلا كل ذي ثقة فالسر عند خيار الناس مكتوم 
و أيضا فإن مثل هذه المشاهدات تعتبر أمورا روحانية و أسرارا ربانية لا يفهمها إلا من ذاقها، و في ذلك قالوا:
لا يعرف الشوق إلا من يكابده و لا الصبابة إلا من يعانيها 
فلا فائدة ترجى من التعبير عنها. و الدليل على ما ذكرنا أن النبي صلى اللّه عليه و آله و سلم أمر سيدنا حارث بن مالك الأنصاري بعدم التعبير عما رآه قائلا له: عرفت فالزم. و الحديث بتمامه هو
أن الحارث بن مالك الأنصاري مرّ برسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم فقال له: «كيف أصبحت يا حارثة؟» قال: أصبحت مؤمنا حقا، قال: «انظر ما تقول؟ فإن لكل شيء حقيقة، فما حقيقة إيمانك؟» فقال: قد عزفت نفسي عن الدنيا، و أسهرت لذلك ليلي، و أظمأت نهاري، و كأني أنظر إلى عرش ربي بارزا، و كأني أنظر إلى أهل الجنة ۶٨
يتزاورون فيها، و كأني أنظر إلى أهل النار يتضاغون فيها. فقال: «يا حارثة عرفت فالزم» ثلاثا ١.
أما فيما يتعلق بالفقرة الأخيرة و هي: تحدّثه بكل ما علمه من علوم، سواء أكانت مادية أم ربانية، و الاستدلال على جهله بتصرفه هذا، فما ورد في الخبر:
«لا تؤتوا الحكمة غير أهلها فتظلموها و لا تمنعوها أهلها فتظلموهم» . و قد قيل: «إن من العلم كهيئة المكنون لا يعرفه إلا العلماء باللّه، فإذا أظهروه أنكره أهل الغرة باللّه» و قال سيدنا أبو هريرة رضي اللّه تعالى عنه: «حفظت من رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم جرابين من العلم:
أما أحدهما فبثثته في الناس، و أما الآخر فلو بثثته لقطع مني هذا البلعوم» . و للإمام زين العابدين علي بن الحسين رضي اللّه عنه قوله شعرا:
يا ربّ جوهر علم لو أبوح به لقيل لي أنت ممن يعبد الوثنا 
و لاستحلّ رجال مسلمون دمي يرون أقبح ما يأتونه حسنا 
إني لأكتم من علمي جواهره كي لا يرى الحقّ ذو جهل فيفتتنا 
و قال الإمام الغزالي رحمه اللّه تعالى: قد تضر علوم الحقائق بأقوام كما يتضرر الجعل بالمسك و الورد (و الجعل بضم الجيم حشرة الخنفس) .
فعلى الإنسان العاقل أن لا يجيب عن كل ما يسأل عنه، و أن لا يخجل من قوله لا أدري، و أن لا يعبّر عن كل ما يشهده من أسرار و أذواق روحانية، و أن لا يتحدث بكل ما علمه من معارف ربانية، لكي لا يكذب من الآخرين و يوصف بالجهل أو بالكفر و الزندقة.