شرح الحكمة العطائية الرابعة والعشرين من كتاب اللطائف الإلهية

الحكمة الرابعة و العشرون: 
«إذا علمت أنّ الشّيطان لا يغفل عنك، فلا تغفل أنت عمّن ناصيتك بيده» .
شرح الحكمة: 
أمهد لشرح هذه الحكمة بالقول:
إن الإنسان لم يخلق عبثا في هذا الكون مصداقا لقوله تعالى: أَ فَحَسِبْتُمْ أَنَّمٰا خَلَقْنٰاكُمْ عَبَثاً وَ أَنَّكُمْ إِلَيْنٰا لاٰ تُرْجَعُونَ (115) [المؤمنون:115]. إن سبب خلقنا في هذه الدنيا نجده في قوله تعالى: وَ مٰا خَلَقْتُ اَلْجِنَّ وَ اَلْإِنْسَ إِلاّٰ لِيَعْبُدُونِ (56) [الذّّاريات: 56]فنعبد اللّه تعالى بإطاعة أوامره و اجتناب نواهيه وصولا إلى معرفة وحدانيته تعالى في ذاته و صفاته و أفعاله، لأن هذه المعرفة هي غاية العبادة و هدفها الأسمى، فبها يعمّر الكون، و تستقيم الحياة البشرية، و يدرك الاطمئنان الدنيوي، و تنال السعادة الأبدية.
إلا أن الإنسان خلال طاعته لربه، سيجد معوقات و موانع تحول بينه و بين تحققه بعبوديته للّه تعالى و الخضوع لشريعته. و هي كثيرة و أصولها أربعة: الأول النفس مصداقا لقوله تعالى: إِنَّ اَلنَّفْسَ لَأَمّٰارَةٌ بِالسُّوءِ [يوسف:53]الثاني: الدنيا مصداقا لقوله تعالى: اِعْلَمُوا أَنَّمَا اَلْحَيٰاةُ اَلدُّنْيٰا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ [الحديد:20]الثالث: الخلائق مصداقا لقوله تعالى: وَ إِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اَللّٰهِ [الأنعام:116]الرابع: الشيطان مصداقا لقوله تعالى: إِنَّ اَلشَّيْطٰانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا [فاطر:6].
إن هذه الحكمة تتكلم عن هذا المانع الرابع الذي هو الشيطان، و تذكرنا علمنا و معرفتنا بأنه-أعاذنا اللّه منه-لا يغفل عنا، لأنه أقسم أنه سيغوينا و سيحول بيننا و بين دين اللّه تعالى و صراطه المستقيم، قال اللّه تعالى: قٰالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلاّٰ عِبٰادَكَ مِنْهُمُ اَلْمُخْلَصِينَ (83) [ص: الآيتان 82،83]و قال تعالى: قٰالَ فَبِمٰا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرٰاطَكَ اَلْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَ مِنْ خَلْفِهِمْ وَ عَنْ أَيْمٰانِهِمْ وَ عَنْ شَمٰائِلِهِمْ وَ لاٰ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شٰاكِرِينَ (17) [الأعراف: الآيتان 16،17]. قال سيدنا عبد اللّه بن عباس رضي اللّه عنهما في تفسير هذه الآية: «من بين أيديهم: أشككهم في آخرتهم، و من خلفهم: أرغبهم في دنياهم، و عن أيمانهم: أشبه عليهم أمر دينهم، و عن شمائلهم: أزين لهم المعاصي و أحقق لهم الباطل» .
فإذا علمنا أن الشيطان لا يغفل عنا لأنه يجري منا مجرى الدم مصداقا لقوله صلى اللّه عليه و آله و سلم:
«إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم» فعلينا أن لا نغفل عمن نواصينا بيده سبحانه و تعالى، لأن حضورنا مع اللّه تعالى هو أنجع الأدوية التي تعالجنا من سيطرة الشيطان على أعمالنا و نفوسنا و قلوبنا و عقولنا. و إن عدم الغفلة عن اللّه تعالى تتحقق بأمور كثيرة منها: المداومة على ذكر اللّه تعالى بأنواعه المختلفة، قال اللّه تعالى: إِنَّ اَلصَّلاٰةَ تَنْهىٰ عَنِ اَلْفَحْشٰاءِ وَ اَلْمُنْكَرِ وَ لَذِكْرُ اَللّٰهِ أَكْبَرُ [العنكبوت:45]و منها: تلاوة القرآن الكريم، قال اللّه تعالى: وَ إِذٰا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيٰاتُهُ زٰادَتْهُمْ إِيمٰاناً وَ عَلىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال:2]. و منها: الاستغفار و في الحديث الذي رواه أحمد في المسند من حديث أبي سعيد الخدري رضي اللّه تعالى عنه: «إن إبليس قال: و عزتك و جلالك لا أبرح أغوي بني آدم ما دامت الأرواح فيهم، فقال اللّه عزّ و جل: و عزتي و جلالي لا أبرح أغفر لهم ما استغفروني» .
و منها: التوكل على اللّه تعالى في كل الأمور مصداقا لقوله تعالى: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطٰانٌ عَلَى اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَلىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) [النّحل:99]و منها: صدق العبودية للّه تعالى بامتثال أوامره و اجتناب نواهيه مصداقا لقوله تعالى: إِنَّ عِبٰادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطٰانٌ وَ كَفىٰ بِرَبِّكَ وَكِيلاً (65) [الإسراء:65]. و منها: الاستعاذة باللّه من الشيطان امتثالا لقوله تعالى: فَاسْتَعِذْ بِاللّٰهِ مِنَ اَلشَّيْطٰانِ اَلرَّجِيمِ [النّحل:98].
و منها: التقوى المؤدية إلى سرعة الرجوع إلى اللّه تعالى بالتوبة عند مس خواطر الشيطان لهم مصداقا لقوله تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا إِذٰا مَسَّهُمْ طٰائِفٌ مِنَ اَلشَّيْطٰانِ تَذَكَّرُوا فَإِذٰا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) [الأعراف:201].
و منها: التسمية عند شؤونك كلها قال صلى اللّه عليه و آله و سلم:
«إذا دخل الرجل بيته فذكر اللّه تعالى عند دخوله و عند طعامه قال الشيطان لأصحابه لا مبيت لكم و لا عشاء، و إذا دخل فلم يذكر اللّه تعالى عند دخوله قال الشيطان أدركتم المبيت: و إذا لم يذكر اللّه تعالى عند طعامه قال أدركتم المبيت و العشاء» (رواه مسلم) . و قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم:
«لو أن أحدهم، إذا أراد أن يأتي أهله قال: باسم اللّه اللّهم جنبنا الشيطان، و جنب الشيطان ما رزقتنا، فإنه، إن يقدّر بينهما ولد في ذلك لم يضره شيطان أبدا» (رواه مسلم) . 82
فعليك أخي المسلم أن لا تغفل عن اللّه تعالى طرفة عين إذا أردت أن تسلم من كيد الشيطان و مكره و إغوائه، و يتحقق لك ذلك بأن تعبد اللّه تعالى كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك و هذا هو مقام الإحسان، و الإحسان ثالث أركان الدين الإسلامي و يأتي بعد ركني الإسلام و الإيمان.