شرح الحكمة العطائية السادسة عشرة من كتاب اللطائف الإلهية

الحكمة السادسة عشرة:
«إن أردت أن يكون لك عزّ لا يفنى، فلا تستعزّنّ بعزّ يفنى» .
شرح الحكمة:
إن الإنسان بفطرته يصبو إلى الجاه و العز، و يحب أن يكون عزيزا بالدنيا، و إنّ النفس تحث صاحبها على السعي جاهدا في سبيل الوصول إلى هذا العز و نيله، و لكنها إن كانت أمّارة بالسوء جاهلة بربها محجوبة عنه بظلمات المعاصي
و الشهوات، فإنها تضلل الإنسان و تجعله يعتز بما يفنى، فيتعلق بالمال و العشيرة و الولد و المنصب و السلطان و غير ذلك من أمور الدنيا الفانية التي يظن أن عزه فيها فيشغل قلبه بها، مع أنه لو ملك الدنيا جميعها و اعتزّ بها إنما يكون قد اعتزّ بأقل من جناح بعوضة بدليل قول النبي صلى اللّه عليه و آله و سلم فيما صحّ عنه: «لو كانت الدنيا تعدل عند اللّه جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء» ١.
و أما الإنسان العاقل صاحب النفس المطمئنة بنور الإيمان، فإنه يعتز بما يبقى، لأنه يريد أن يكون له عز لا يفنى، و هو: العز باللّه تعالى و بطاعته و امتثال أمره و موالاة أحبابه، قال تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْهٰا فٰانٍ (26) وَ يَبْقىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو اَلْجَلاٰلِ وَ اَلْإِكْرٰامِ (27) [الرّحمن:26-27]و قال تعالى: مَنْ كٰانَ يُرِيدُ اَلْعِزَّةَ فَلِلّٰهِ اَلْعِزَّةُ جَمِيعاً [فاطر:10] و قال تعالى: وَ مَنْ يَتَوَلَّ اَللّٰهَ وَ رَسُولَهُ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اَللّٰهِ هُمُ اَلْغٰالِبُونَ (۵۶) [المائدة:
۵۶]و قال تعالى: وَ لِلّٰهِ اَلْعِزَّةُ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ لٰكِنَّ اَلْمُنٰافِقِينَ لاٰ يَعْلَمُونَ [المنافقون:٨].
و روي عن سيدنا علي رضي اللّه تعالى عنه و كرّم وجهه قوله: «من أراد الغنى بغير مال، و الكثرة بغير عشيرة فلينتقل من ذل المعصية إلى عز الطاعة» أي من استعز باللّه تعالى لا يقدر أحد أن يذله، و يروى في ذلك قصة الرجل الذي أمر هارون الرشيد بالمعروف فغضب منه و حنق عليه، فقال: -أي هارون الرشيد-اربطوه مع بغلة سيئة الخلق لتقتله، فلم تفعل معه شيئا، ثم قال: اسجنوه و طيّنوا عليه الباب ففعلوا، فرئي في بستان فأتي به فقال له: من أخرجك من السجن؟ فقال: الذي أدخلني البستان، فقال: و من أدخلك البستان؟ فقال: الذي أخرجني من السجن، فعلم هارون الرشيد أنه لم يقدر على ذله، و أمر الرشيد أن يركب الرجل و ينادى عليه: ألا إن هارون أراد أن يذل عبدا أعزّه اللّه فلم يقدر» .
فعليك أخي المسلم، إذا أردت أن يكون لك عز لا يفنى، أن لا تستعز بغير اللّه تعالى القائل: أَ يَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ اَلْعِزَّةَ فَإِنَّ اَلْعِزَّةَ لِلّٰهِ جَمِيعاً [النّساء:١٣٩]. و قال تعالى: وَ اُنْظُرْ إِلىٰ إِلٰهِكَ اَلَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عٰاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي اَلْيَمِّ نَسْفاً [طه:97].