شرح الحكمة العطائية العشرين من كتاب اللطائف الإلهية

الحكمة العشرون: 
«أمرك في هذه الدّار بالنّظر في مكوّناته و سيكشف لك في تلك الدّار عن كمال ذاته» .
شرح الحكمة:
قبل الشروع في شرح الحكمة و ذكر المقصود منها أوضح نصها فأقول: أمرك (أي اللّه تعالى) في هذه الدار (أي الدنيا) بالنظر (أي بالتفكر و الاعتبار) في مكوناته (أي مخلوقاته) و سيكشف لك (أيها المسلم) في تلك الدار (أي الآخرة) عن كمال ذاته (أي عنها و ذلك بشهودها مصداقا لقوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نٰاضِرَةٌ (22) إِلىٰ رَبِّهٰا نٰاظِرَةٌ (23) [القيامة:22،23].
أبدأ في الشرح فأقول: إن غاية خلق الإنسان و العالم هي معرفة اللّه تعالى بدليل قوله تعالى: وَ مٰا خَلَقْتُ اَلْجِنَّ وَ اَلْإِنْسَ إِلاّٰ لِيَعْبُدُونِ (56) [الذّاريات:56]فسّر سيدنا عبد اللّه بن عباس رضي اللّه عنهما قول اللّه تعالى: لِيَعْبُدُونِ [الذّاريات:56] ب‍ «ليعرفون» ، و يكون الحق تعالى عبّر عن الغاية التي هي المعرفة بالوسيلة التي هي العبادة. و العبادة متنوعة منها ما هو حسي متعلق بالجوارح كأركان الإسلام، و منها ما هو معنوي روحي متعلق بركني الإيمان و الإحسان.
و هذه الحكمة تتحدث عن عبادة التفكر و الاعتبار التي تتحقق من خلال النظر في الآفاق و الأنفس، و قد أمرنا اللّه تعالى بها في قوله: قُلِ اُنْظُرُوا مٰا ذٰا فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ [يونس:101]و قوله: وَ يَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ رَبَّنٰا مٰا خَلَقْتَ هٰذٰا بٰاطِلاً سُبْحٰانَكَ فَقِنٰا عَذٰابَ اَلنّٰارِ [آل عمران:191]و قوله تعالى: سَنُرِيهِمْ آيٰاتِنٰا فِي اَلْآفٰاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتّٰى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ اَلْحَقُّ [فصّلت:53].
إن النظر في المكونات و التفكر فيها يوصل إلى معرفة اللّه تعالى. قال أبو العتاهية:
و في كل شيء له آية تدل على أنه الواحد 
إن الأثر يدل على المؤثر، و الصنعة تدل على الصانع، و قال أعرابي: إن البعرة تدل على البعير، و السير يدل على المسير، أفأرض ذات فجاج و سماء ذات أبراج أفلا تدل على الواحد القهّار. إن نظر هذا الأعرابي في مخلوقات اللّه و تفكره فيها أوصله إلى الاعتراف بوجود اللّه تعالى الواحد القهّار. فكل جزء من أجزاء هذا العالم إما أن يدل على صفة من صفاته تعالى، و إما أن يدل على اسم من أسمائه تعالى، و إما أن يدل على فعل من أفعاله تعالى، فهو بمجموعه يوصل العبد إلى معرفة وحدانية اللّه تعالى في ذاته و صفاته و أفعاله و أحكامه.
و قد أمرنا شرعا بالتفكر في خلق اللّه و لم نؤمر بالتفكر في ذاته تعالى، لأن اللّه عزّ و جل لا يدرك من حيث الحقيقة و الكنه و الماهية، قال اللّه تعالى: لاٰ تُدْرِكُهُ 75
اَلْأَبْصٰارُ [الأنعام:103]. و إنما نعرف منه تعالى صفاته و أسماءه و أفعاله، و نعرف آثار هذه الصفات و الأسماء و الأفعال، لذلك قال النبي صلى اللّه عليه و آله و سلم:
«تفكروا في آلاء اللّه و لا تفكروا في اللّه» .
و الشريعة المطهرة بما فيها من إسلام و إيمان و إحسان تؤهل الإنسان لرؤية اللّه تعالى في الآخرة مصداقا لقوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نٰاضِرَةٌ (22) إِلىٰ رَبِّهٰا نٰاظِرَةٌ (23) [القيامة:22،23]، و قوله صلى اللّه عليه و آله و سلم:
«إنكم سترون ربكم عيانا كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته» 1. و هذا هو المقصود من الحكمة في شطرها الأخير:
«و سيكشف لك في تلك الدار عن كمال ذاته» .